مقدمة دروس السيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

أما بعد :

فإن السيرةَ النبويةَ قد حظيتْ بعناية العلماء منذ عصر الصحابة رضوانُ الله عليهم . ثم نشطتْ هذه العناية في عصر التابعين .

و برز – في تلك الحقبة - أئمةٌ في هذا الشأن , كابن شهابٍ الزهري , وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري , وعبد الله بن أبي بكر بن حزم , ويزيد بن رومان , وغيرهم .

وعن هذه الطبقة أخذ كبار علماء السيرة , من أمثال محمد بن إسحاق بن يسار ( ت151هـ ) , وموسى بن عقبة ( 141هـ ) , وغيرهم ممن لم يشتهر شهرة هذين الإمامين .

ثم تنوعت التواليف في السيرة وكثرت .

وكان أشهرُ الكتب المتقدمة وأكثرها نفعاً وأحسنها تصنيفاً :

سيرة ابن هشام ( ت 218هـ ) التى هذَّب فيها سيرة محمد بن إسحاق .

وابن هشام يروي سيرة ابن إسحاق عن تلميذ ابن إسحاق : زياد بن عبدالله البَكَّائي , وهو أثبت الناس وأوثقهم في رواية المغازي عن محمد بن إسحاق .

ثم جاء في القرن الثامن الهجري الحافظ ابن كثير فألف في السيرة , ضِمْنَ كتابه الشهير ( البداية والنهاية ) ثم أفردت السيرة النبوية , من الكتاب المذكور, وعُرفت بسيرة ابن كثير .

وقد اعتمد ابن كثير كثيراً على ابن إسحاق , وينقل عن غيره من أئمة المغازي والسير .

وكان ابن كثير – كما هو معروف - عالماً بالحديث النبوي ومن حفاظه المتقنين , فمحَّص كثيرا من الروايات , وأدخل كثيراً من الأحاديث النبوية , فأدمجها في السيرة المروية , فكان كتابه جامعاً بين السيرة والحديث , ما أعطى كتابَه أهميةً ومكانةً لدى الباحثين .

وقد استعنتُ بالله تعالى في جمع كتاب مختصر في السيرة النبوية , يكون مُعيناً ومفتاحاً لطلاب العلم في دراسة السيرة , وجعلته في ثلاثين درساً – مع هذه المقدمة –

واعتمدتُ على ما كتبه الأقدمون من علماء السيرة , كإمام المغازي محمد بن إسحاق بن يسار المدني , لاتفاق العلماء على أن ابن إسحاق هو المقدم على أهل عصره بالمعرفة والتبحر في علم المغازي والسير , وقد أخذ هذا العلم عن كبار علماء عصره من صغار التابعين , ممن أخذ عن الصحابة وعن كبار التابعين , فابن إسحاق قريب عصره من أحداث السيرة , وممن عاصرها وعاش أحداثها , وكان كثير العناية بها , حتى لقبَّه العلماء : بإمام المغازي .

هذا, بالإضافة إلى بلاغته وجزالة لفظه وفخامة أسلوبه وحسن عرضه .

فكان جُلُّ ما أذكره , هو من كلامه رحمه الله , مما نقله عنه ابن هشام , من الأخبار المشهورة عند علماء السيرة .

وقد تجنبت المنكرات والأخبار الواهية والمنتقدة عند العلماء .

ورجعتُ – أيضاً - إلى ما كتبه وحرره الحافظ ابن كثير , واستفدت كثيراً من سوقه للأحاديث النبوية .

وقد اجتهدتُ ما أمكنني أن أُخرج سيرةً محررةً , خاليةً من الأحاديث الضعيفة , والأخبار المنكرة .

هذا, وليعلم أن علم السيرة النبوية ليس كعلم الحديث النبوي , فالمنهج في السيرة يختلف عن المنهج في الحديث , ومن رام أن يجعل السيرة النبوية على شرط الصحيح من الحديث النبوي فلن يصفو معه إلا القليل من أحداثها .

وقد قامت محاولات في هذا العصر في كتابة صحيح السيرة , أو جمع المرويات الصحيحة في السيرة .

فكانت النتيجة أنَّ ما من محاولة إلا وعليها مؤآخذات , إما من جهة التزام الصحة , حيث أدخلوا غير الصحيح , وإما من جهة الإخلال بسرد السيرة والربط بين أحداثها , فخالفوا بذلك صنيع أئمة السيرة الأولين , حيث جمع الأولون سيرةً متكاملةً مترابطةً في أحداثها .

وإني لأعجبُ من هذه المنهجية العصرية في علم السيرة النبوية , وقد قال الإمام أحمد : ثلاثة كتب , ليس لها أصول : المغازي , والملاحم , والتفسير(1) .

فكيف السبيل إذن إلى الأسانيد الصحيحة المتصلة في علم ليس له أصول , وإنما هو في الغالب أخبار مشهورة حفظها التابعون وحدثوا بها , ودوَّنها العلماء من أمثال ابن إسحاق وغيره .

والمقصود أن السيرة النبوية حوت أخبارا كثيرة , ينبغي ذِكْرُ المشهور عند أهل العلم مما حَّدث به علماءُ التابعين , ودوَّنه العلماء من بعدهم , وتجنب المنكر والشاذ المنتقد عند العلماء , وأما الأحاديث التى تنبني عليها أحكام شرعية , فهذه لا بد فيها من صحة السند سواء أكانت في السيرة أم في غيرها .

وإنما كلامنا في أخبار مشهورة لا تنبني عليها أحكام فقهية , وليس فيها ما ينكر.

وأعني بالمنكر : أن يشتمل الخبر على مخالفة لآيةٍ كريمة أو حديثٍ صحيح أو أصلٍ شرعي .

فعلى سبيل المثال : الخبر الذي اشتهر عند علماء السيرة المتقدمين أن نُعيم بن مسعود الغطفاني أوقع بين الأحزاب وبين بني قريظة في معركة الخندق , بخديعة حاكها بين الطرفين .

فهذا الخبر من الناحية الإسنادية ليس بذاك , لكنه في ذاته لا يخالف أصول الشريعة ؛ فإن الحرب خدعة .

وقس على ذلك .

وهذا هو المنهج الذي سرتُ عليه , وهو الأقرب من منهج العلماء المتقدمين من أئمة هذا الشأن , ويتمثل في الآتي :

جمع السيرة النبوية جمعاً متكاملاً , مع الربط بين أحداثها , وتوخي الصحة بقدر الإمكان , وطرح المرويات الواهية والمنكرة , وما ليس له أصل في الأخبار التى رواها التابعون والثقات من أصحابهم .

وقد تركت كثيراً من الأخبار – مع كونها على هذا الشرط – طلباً للاختصار .

فدونك يا طالبَ العلم , ويا محبَ رسولِ الله : سيرةً محررةً مهذبةً عاليةَ الإسناد ؛ لتكونَ على بصيرة من سيرة حبيبنا ونبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم .

 

كتبه / عبدالحميد بن خليوي الجهني

ليلة الخميس 9 رمضان 1431 هـ

ينبع - السعودية .

 

ـــــــــــــــــ

الحاشية:

(1)ذيل طبقات الحنابلة ( 3/135 )

ومراد الإمام أحمد رحمه الله أن غالب هذه العلوم الثلاثة أحاديث موقوفة , وآثار منقطعة . وأن المسند فيها قليل بالنسبة لغير المسند . والله تعالى أعلم .