الدرس الثالث والعشرون : تكملة لأحداث السنة السابعة, وبعض أحداث السنة الثامنة من الهجرة

الدرس الثالث والعشرون :

تَكْمِلَةٌ لِأَحْدَاثِ السَّنَةِ السَّابِعَةِ , وَبَعْضُ أَحْدَاثِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ

 

غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ

كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ, كَمَا قَالَ البُخَارِيُّ (1) . وَأَخْرَجَ هو وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا . وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ قَالَ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ .كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ (2) .

قال ابن إسحاق : غَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِيَّ ثَعْلَبَةَ مِنْ

غَطَفَانَ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ . ثُمَّ انْصَرَفَ بِالنَّاسِ .

قُلْتُ : وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ( البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .

قَالَ مَالِكٌ : وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ (3) .

وَفِي طَرِيقِ عَوْدَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى المَدِينَةِ, وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةُ ذَاكَ الَّذِي أَخَذَ سَيْفَهُ وَهو نَائِمٌ .

قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما : قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ (4) بِنَخْلٍ فَرَأَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟

قَالَ : اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .

فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟

قَالَ :كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ .

قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟

قَالَ : لَا , وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ . فَخَلَّى سَبِيلَهُ .

قَالَ : فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ (5) .

عُمْرَةُ القَضَاءِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ خَيْبَرَ، أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَجُمَادَيَيْنِ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا، يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِهِ وَسَرَايَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

ثُمَّ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا .

وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ صُدَّ مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ، وَهِيَ سَنَةَ سَبْعٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ، وَتَحَدَّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ وَشِدَّةٍ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : صَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً . ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، مَشَى حَتَّى يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا .

فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ حَتَّى إذَا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَلَزِمَهَا، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بِهَا .

قُلْتُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ .

قَالَ الْمُشْرِكُونَ : إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً . فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِى الْحِجْرَ وَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ .

فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ ؟ هَؤُلاَءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ (6) .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ (7) وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ إيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

( قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ وَكَانَتْ أُمُّ الْفَضْلِ تَحْتَ الْعَبَّاسِ، فَجَعَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ )

فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكَّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ . فَقَالُوا لَهُ : إنَّهُ قَدْ انْقَضَى أَجَلُكَ، فَاخْرُجْ عَنَّا .

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ ؟

قَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِكَ فَاخْرُجْ عَنَّا .

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ، حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفَ. فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ .

قُلْتُ : وَفِي صّحِيحِ البُخَارِيِّ : أَنَّهُ لمَّا مَضَى الْأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ : يَا عَمِّ يَا عَمِّ , فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ احْمِلِها فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي . وَقَالَ جَعْفَرٌ : ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي . وَقَالَ زَيْدٌ : ابْنَةُ أَخِي .

فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ : الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ . وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي . وَقَالَ لِزَيْدٍ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا (8) .

إسْلامُ خَالِدِ بنِ الْوَلِيدِ وَعَمْرِو بنِ العَاصِ وعُثْمَانَ بنِ طَلْحَةَ

قَالَ الْوَاقِدِي : حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ (9) قَالَ : قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : كُنْت لِلْإِسْلَامِ مُجَانِبًا مُعَانِدًا، فَحَضَرْت بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْت، ثُمَّ حَضَرْت أُحُدًا فَنَجَوْت، ثُمَّ حَضَرْت الْخَنْدَقَ فَقُلْت فِي نفسي : كم أُوضِعُ (10) ؟ وَاَللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ فَخَلَّفْت مَالِي بِالرَّهْطِ وَأَفْلَتْ - يَعْنِي مِنْ النَّاسِ (11)- فَلَمْ أَحْضُرْالْحُدَيْبِيَةَ وَلَا صُلْحَهَا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصُّلْحِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكَّةَ، فَجَعَلْت أَقُولُ : يَدْخُلُ مُحَمَّدٌ قَابِلًا مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ ! مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ وَلَا الطَّائِفُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ . وَأَنَا بَعْدُ نَاتٍ عَنْ الْإِسْلَامِ أَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا لَمْ أُسْلِمْ .

فَقَدِمْت مَكَّةَ فَجَمَعْت رِجَالًا مِنْ قَوْمِي كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي وَيُقَدِّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ فَقُلْت لَهُمْ كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ ؟

قَالُوا : ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا (12) مَعَ يُمْنِ نَفْسٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ .

قَالَ : قُلْت : تَعْلَمُونَ وَاَللَّهِ أَنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوَّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْت رَأْيًا .

قَالُوا : مَا هُوَ ؟

قَالَ : نَلْحَقُ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ مُحَمَّدٌ كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النَّجَاشِيِّ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ تَظْهَرُ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا .

قَالُوا : هَذَا الرَّأْيُ .

قَالَ : فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ . وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ . قَالَ : فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَاَللَّهِ إنَّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ يُزَوِّجُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فدخل عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقُلْت لِأَصْحَابِي : هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيِّةَ وَلَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النَّجَاشِيِّ وَسَأَلْته إيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ سُرَّتْ قُرَيْشٌ وَكُنْت قَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمَّدٍ .

قَالَ : فَدَخَلْت عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَقَالَ : مَرْحَبًا بِصَدِيقِي أَهْدَيْت لِي مِنْ بِلَادِك شَيْئًا ؟

قَالَ : فَقُلْت : نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْدَيْت لَك أَدَمًا كَثِيرًا . ثُمَّ قَرَّبْته إلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَفَرَّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بِطَارِقَتِهِ وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ وَأَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ وَيَحْتَفِظُ بِهِ . فَلَمَّا رَأَيْت طِيبَ نَفْسِهِ قُلْت : أَيُّهَا الْمَلِكُ إنِّي قَدْ رَأَيْت رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدَك وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا ; قَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلْهُ ! فَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْت أَنَّهُ كَسَرَهُ وَابْتَدَرَ مِنْخَارِي ، فَجَعَلْتُ أَتَلْقَى الدَّمَ بِثِيَابِي، وَأَصَابَنِي مِنْ الذُّلِّ مَا لَوْ انْشَقَّتْ بِي الْأَرْضُ دَخَلْت فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ .

ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْتُ مَا سَأَلْتُك .

قَالَ : وَاسْتَحْيِي وَقَالَ : يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَاَلَّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - لِتَقْتُلَهُ ؟

قَالَ عَمْرٌو : وَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي : عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ ؟

قُلْت : أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا ؟

قَالَ : نَعَمْ , أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو , فَأَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى كُلِّ دِينٍ خَالَفَهُ , كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ .

قُلْت : أَفَتُبَايِعُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ ؟

قَالَ : نَعَمْ . فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَتْهُ عَلَى الإسْلامِ، وَدَعَا لِي بِطَسْتٍ فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدْ امْتَلَأَتْ مِنْ الدَّمِ فَأَلْقَيْتهَا، ثُمَّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِي فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ الْمَلِكِ سُرُّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا : هَلْ أَدْرَكْتَ مَنْ صَاحِبُك مَا أَرَدْتَ ؟

فَقُلْتُ لَهُمْ :كَرِهْتُ أَنْ أُكَلَّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَقُلْت أَعُودُ إلَيْه ِ. قَالُوا : الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ وَفَارَقْتهمْ كَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ فَعَمِدْتُ إلَى مَوْضِعِ السُّفُنِ فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ بِرُقَعٍ (13) فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا حَتَّى انْتَهَوْا إلَى الشُّعَيْبَةِ (14) وَخَرَجْتُ مِنْ الشُّعَيْبَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ فَابْتَعْتُ بَعِيرًا وَخَرَجْتُ أُرِيدُ الْمَدِينَةَ حَتَّى خَرَجْت عَلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ (15)، ثُمَّ مَضَيْت حَتَّى كُنْتُ بِالْهَدَّةِ (16) إذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ وَالْآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ , فَنَظَرْتُ وَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقُلْتُ : أَبَا سُلَيْمَانَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَمَعٌ , وَاَللَّهِ لَوْ أَقَمْنَا لَأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرِقْبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا .

قُلْت : وَأَنَا وَاَللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَرَدْتُ الْإِسْلَامَ . وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحَّبَ بِي فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ ثُمَّ تَرَافَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ! يَا رَبَاحُ! فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسِرْنَا، ثُمَّ نَظَرَ إلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ : قَدْ أَعْطَتْ مَكَّةُ الْمَقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ فَظَنَنْتُ أَنّهُ يَعْنِينِي وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا إلَى الْمَسْجِدِ سَرِيعًا , فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُبَشِّرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا ظَنَنْتُ .

وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ فَانْطَلَقْنَا جَمِيعًا حَتَّى طَلَعْنَا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّ لِوَجْهِهِ تَهَلُّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلَامِنَ.

فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ ثُمَّ تَقَدَّمْت، فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إلَيْهِ حِيَاءً مِنْهُ فَبَايَعْتُه عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخَّرَ .

فَقَالَ : إنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبَّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَجُبَّ مَا كَانَ قَبْلَهَا .

قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ حَزَبَهُ مُنْذُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ.

قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ – هُو ابنُ جَعْفَرٍ - : فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ عَمْرٍو، نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ فَقُلْتُ لِيَزِيدَ فَلَمْ يُوَقِّت لَك مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ ؟

قَالَ : لَا، إلَّا أَنَّهُ قُبَيْلَ الْفَتْحِ . قُلْتُ : وَإِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ عَمْرًا، وَخَالِدًا، وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ (17).

معركة مُؤتَة

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَةَ إلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ : إنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ . فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النَّاسِ .

فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ . وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجَهُمْ وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ .

ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مَعَانَ، مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ، مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي مِئَةِ أَلْفٍ مِنْ الرُّومِ، وَانْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ وَبَهْرَاءَ وَبَلِي مِئَةُ أَلْفٍ مِنْهُمْ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيٍّ ثُمَّ أَحَدُ إرَاشَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ .

فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يُفَكِّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالَُوا : نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنَا، فَإِمَّا أَنْ يُمِدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ، فَنَمْضِيَ لَهُ .

قَالَ : فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاَللَّهِ إنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ، لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدِ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ .

قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : قَدْ وَاَللَّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ . فَمَضَى النَّاسُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَمَضَى النَّاسُ حَتَّى إذَا كَانُوا بِتُخُومِ الْبَلْقَاءِ لَقِيَتْهُمْ جَمُوعُ هِرَقْلَ مِنْ الرُّومِ وَالْعَرَبِ، بِقَرْيَةِ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا مَشَارِفُ، ثُمَّ دَنَا الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ . فَالْتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا فَتَعَبَّأَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ : قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عُبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ .

تَمَّ الْتَقَى النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِرَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ .

ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ . فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ قَالَ : وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ثُمَّ عَقَرَهَا ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ :

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا *** طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا

وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا *** كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا عَلَيَّ إذْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا

قُلْتُ : وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ (18) .

وفي رواية قال : فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدْنَاهُ فِي الْقَتْلَى وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ (19) .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرَّايَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بِهَا، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ *** لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ

إنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ *** مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ

قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ *** هَلْ أَنْتِ إلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ

وَقَالَ أَيْضًا:

يَا نَفْسُ إلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي *** هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيَتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ *** إنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ

يُرِيدُ صَاحِبَيْهِ : زَيْدًا وَجَعْفَرًا؛ ثُمَّ نَزَلَ فَلَمَّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعَرْقٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ : شُدَّ بِهَذَا صُلْبَكَ، فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ فِي أَيَّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ انْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً، ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدَّمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ .

تَمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ أَخُو بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، قَالُوا : أَنْتَ، قَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلِ . فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ . وَحَاشَى بِهِمْ ثُمَّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ، حَتَّى انْصَرَفَ بِالنَّاسِ .

قُلْتُ : فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ : أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ - حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (20) .

وفي رواية قال : ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ وَمَا يَسُرُّنِي أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا (21) .

ثُمَّ إنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ : لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ , ادْعُوا لِي ابْنَيْ أَخِي .

قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ( رَاوي الحَدِيثِ ) : فَجِيءَ بِنا كَأَنَّا أَفْرُخٌ فَقَالَ : ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلَّاقَ . فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا ثُمَّ قَالَ : أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ , وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ . قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ . قَالَ : فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ (22) فَقَالَ : الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ , وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . (23)

وَاسْتُشْهِدَ مِن المُسْلِمَينَ فِي مَعْرَكَةِ مُؤتَةَ اثْنَا عَشَرَ رَجَلاً – عَلَى أَكْثَرِ تَقْدِيرٍ – مِنْهُم الأُمَرَاءُ الثَّلاثَةُ ؛ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ, وَجَعْفَرُ بنُ أبِي طَالِبٍ, وَعَبْدُاللهِ بنُ رَوَاحَةَ . رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ .

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا عَظِيمٌ جِدَّاً، أَنْ يَتَقَاتَلَ جَيْشَانِ مُتَعَادِيَانِ فِي الدِّينِ؛ أَحَدُهُمَا, وَهو الفِئَةُ الَّتِى تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ, عِدَّتُهَا ثَلاثَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ وَعِدَّتُهَا مِائتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِن الرُّومِ مِائةُ أَلْفٍ، وَمِنْ نَصَارَى العَرَبِ مِائةُ أَلْفٍ، يَتَبَارَزُونَ وَيَتَصَاوَلُونَ , ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لا يُقْتَلُ مِن المُسْلِمِينَ الا اثْنَا عَشَرَ رَجَلاً، وَقَدْ قُتِلَ مِن المُشْرِكِينَ خَلْقٌ كَثيرٌ . هَذَا خَالِدٌ وَحْدَهُ يَقُولُ: لَقَدْ انْدَقَّتْ فِي يَدِى يَومَئِذٍ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ وَمَا صَبَرَتْ فِي يَدِى إلا صَفِيحَةٌ يَمَانِيةٌ، فَمَاذَا تَرَى قَدْ قَتَلَ بِهَذِهِ الأِسْيَافِ كُلِّهَا ؟ دَعْ غَيرَهُ مِن الأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ مِنْ حَمَلَةِ القُرْآنِ، وَقَدْ تَحَكَّمُوا فِي عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ, عَلَيْهِمْ لَعَائنُ الرَّحْمَنِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِى كُلِّ أَوَانِ .

وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } آل عمران (13) .

تابع قراءة الدرس بتحميله من الرابط أعلاه