الدرس الخامس : الهجرة إلى الحبشة

الدرس الخامس : الهجرة إلى الحبشة

 

لَمّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ قَالَ لَهُمْ: " لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ(1) .

فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ .

وَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ , مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ .

وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ , وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ , وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ , وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ , وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ , وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ , وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ , وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ .

فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةِ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، ( قَالَ ابنُ هِشَامٍ : وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ) .

ثُمّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ , مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ , وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَكَانُوا بِهَا ، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لَا أَهْلَ لَهُ مَعَهُ .

فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَهَاجَرَ إلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبْنَائِهِمْ الّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ مَعَهُمْ صِغَارًا وَوُلِدُوا بِهَا ، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، إنْ كَانَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِيهِمْ وَهُوَ يُشَكّ فِيهِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمِنُوا وَاطْمَأَنّوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنّ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَى النّجَاشِيّ ، فَيَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ الّتِي اطْمَأَنّوا بِهَا وَأَمِنُوا فِيهَا ؛ فَبَعَثُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَجَمَعُوا لَهُمَا هَدَايَا لِلنّجَاشِيّ وَلِبَطَارِقَتِهِ ثُمّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ فِيهِمْ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ: لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النّجَاشِيّ ، أَمِنّا عَلَى دِينِنَا ، وَعَبَدْنَا اللّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيّةً ثُمّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ وَقَالُوا لَهُمَا : ادْفَعَا إلَى كُلّ بِطْرِيقٍ هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلّمَا النّجَاشِيّ فِيهِمْ ثُمّ قَدّمَا إلَى النّجَاشِيّ هَدَايَاهُ ثُمّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْل أَنْ يُكَلّمَهُمْ .

قَالَتْ : فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا عَلَى النّجَاشِيّ ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيّتَهُ قَبْل أَنْ يُكَلّمَا النّجَاشِيّ ، وَقَالَا لِكُلّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَإِذَا كَلّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْنَا وَلَا يُكَلَّمَهُمْ فَإِنّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ .

فَقَالُوا لَهُمَا : نَعَمْ .

ثُمّ إنّهُمَا قَدّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النّجَاشِيّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ، ثُمّ كَلّمَاهُ فَقَالَا لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْت ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْك فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ .

قَالَتْ : وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النّجَاشِيّ .

قَالَتْ : فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ .

 

قَالَتْ : فَغَضِبَ النّجَاشِيّ ، ثُمّ قَالَ لَاهَا اللّهِ إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَكَادُ . قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا بِلَادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا ، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي .

قَالَتْ : ثُمّ أَرْسَلَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَاهُمْ فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مَا تَقُولُونَ لِلرّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ ؟

قَالُوا : نَقُول : وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَا ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .

فَلَمّا جَاءُوا ، وَقَدْ دَعَا النّجَاشِيّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي ، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ ؟

قَالَتْ : فَكَانَ الّذِي كَلّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ لَهُ :

أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ

- قَالَتْ فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ فَعَبَدْنَا اللّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، فَعَذّبُونَا ، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا ، لِيَرُدُّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى ، وَأَنْ نَسْتَحِلّ مَا كُنّا نَسْتَحِلّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيّقُوا عَلَيْنَا ، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا ، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِك ، وَاخْتَرْنَاك عَلَى مَنْ سِوَاك ؛ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِك ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ .

قَالَتْ : فَقَالَ لَهُ النّجَاشِيّ : هَلْ مَعَك مِمّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ؟

قَالَتْ : فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ النّجَاشِيّ : فَاقْرَأْهُ عَلَيّ قَالَتْ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ { كهيعص } قَالَتْ فَبَكَى وَاَللّهِ النّجَاشِيّ حَتّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتّى أَخْضَلوا مَصَاحِفَهُمْ حِين سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ .

ثُمّ قَالَ النّجَاشِيّ : إنّ هَذَا وَاَلّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . انْطَلِقَا فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ.

قَالَتْ : فَلَمّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : وَاَللّهِ لَآتِيَنّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ .

قَالَتْ : فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَكَانَ أَتْقَى الرّجُلَيْنِ فِينَا : لَا نَفْعَلُ فَإِنّ لَهُمْ أَرْحَامًا ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا ؛ قَالَ وَاَللّهِ لَأُخْبِرَنّهُ أَنّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ .

قَالَتْ : ثُمّ غَدًا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ : أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا ، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمّا يَقُولُونَ فِيهِ .

قَالَتْ : فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ .

قَالَتْ : وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطّ . فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟

قَالُوا : نَقُولُ وَاَللّهِ مَا قَالَ اللّهُ وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا ، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .

قَالَتْ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ قَالَتْ : فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : نَقُولُ فِيهِ الّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ .

قَالَتْ : فَضَرَبَ النّجَاشِيّ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ، ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ مَا عَدَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ .

قَالَتْ : فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ . فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللّهِ, اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ(2) بِأَرْضِي - وَالشّيُومُ الْآمِنُونَ - مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ, ثُمّ قَالَ مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ . مَا أُحِبّ أَنّ لِي دَبْرًا(3) مِنْ ذَهَبٍ وَأَنّي آذَيْت رَجُلًا مِنْكُمْ . رُدّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، فَوَاَللّهِ مَا أَخَذَ اللّهُ مِنّي الرّشْوَةَ حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي ، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النّاسَ فِيّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ .

قَالَتْ : فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّا لِعَلَى ذَلِكَ إذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ .

قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا عَلِمْتُنَا حَزِنّا حُزْنًا قَطّ كَانَ أَشَدّ عَلَيْنَا مِنْ حُزْنٍ حَزِنّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرّجُلُ عَلَى النّجَاشِيّ ، فَيَأْتِي رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقّنَا مَا كَانَ النّجَاشِيّ يَعْرِفُ مِنْهُ .

قَالَتْ وَسَارَ إلَيْهِ النّجَاشِيّ ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النّيلِ .

قَالَتْ : فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ حَتّى يَحْضُرَ وَقِيعَةَ الْقَوْمِ ثُمّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ ؟

قَالَتْ : فَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ : أَنَا .

قَالُوا : فَأَنْتَ .

وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنّا .

قَالَتْ : فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتّى خَرَجَ إلَى نَاحِيَةِ النّيلِ الّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى حَضَرَهُمْ . قَالَتْ فَدَعَوْنَا اللّهَ تَعَالَى لِلنّجَاشِيّ بِالظّهُورِ عَلَى عَدُوّهِ وَالتّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ .

قَالَتْ : فَوَاَللّهِ إنّا لَعَلَى ذَلِكَ مُتَوَقّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ إذْ طَلَعَ الزّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى ، فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَلَا أَبْشِرُوا ، فَقَدْ ظَفِرَ النّجَاشِيّ ، وَأَهْلَكَ اللّهُ عَدُوّهُ وَمَكّنّ لَهُ فِي بِلَادِهِ .

قَالَتْ : فَوَاَللّهِ مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطّ مِثْلَهَا .

قَالَتْ : وَرَجَعَ النّجَاشِيّ ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللّهُ عَدُوّهُ وَمَكّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ ، فَكُنّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِمَكّةَ(4) .

إسْلَامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ :

مِن الأَحْدَاثِ البَارِزَةِ فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ إسْلامُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ , وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِحَمْزَةِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ – وَكَانَ أسْلَمَ قَبْلَهُ - حَتّى عَازُوا قُرَيْشًا.

قُلْتُ: وَفِيِ صَحِيحِ البُخَارِي عَنْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ(5) .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَتْ: وَاَللَّهِ إنَّا لَنَتَرَحَّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بَعْضِ حَاجَاتِنَا، إذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ - قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا -

قَالَتْ: فَقَالَ: إنَّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا.

قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ - فِيمَا أَرَى - خُرُوجُنَا.

قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا.

قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إسْلَامِهِ ؟

قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ .

قَالَ: فَلَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ؛ قَالَتْ: يَأْسًا مِنْهُ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ(6) .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ أَيّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ فَقِيلَ لَهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ .

قَالَ : فَغَدَا عَلَيْهِ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : فَغَدَوْت أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلّ مَا رَأَيْتُ حَتّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت , وَدَخَلْت فِي دِينِ مُحَمّدٍ ؟

قَالَ : فَوَاَللّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ يَجُرّ رِدَاءَهُ وَاتّبَعَهُ عُمَرُ وَاتّبَعْت أَبِي ، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، أَلَا إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَدْ صَبَأَ .

قَالَ : وَيَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ كَذَبَ وَلَكِنّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

وَثَارُوا إلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ .

قَالَ : وَطَلِحَ فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنّا ثَلَاثَ مِئَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا .

قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حِبْرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشّى ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟

قَالُوا : صَبَا عُمَرُ .

فَقَالَ فَمَهْ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا, خَلّوا عَنْ الرّجُلِ .

قَالَ : فَوَاَللّهِ لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ .

قَالَ : فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ : يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بِمَكّةَ يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَك ؟

فَقَالَ ذَاكَ أَيْ بُنَيّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ(7) .

رُجُوعِ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، إسْلَامُ أَهْلِ مَكّةَ ، فَأَقْبَلُوا لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ ، بَلَغَهُمْ أَنّ مَا كَانُوا تَحَدّثُوا بِهِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا . فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَأُحُدًا وَمَنْ حُبِسَ عَنْهُ حَتّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَغَيْرُهُ وَمَنْ مَاتَ بِمَكّةَ , مِنْهُمْ :

عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ , مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ , وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو , وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ . وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ , وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ , وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ, وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ , وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو , وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ , مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ , وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، حَبَسَهُ عَمُّهُ بِمَكّةَ فَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ هَاجَرَ مَعَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَحِقَ بَهْ أَخَوَاهُ لِأُمّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، فَرَجَعَا بِهِ إلَى مَكّةَ فَحَبَسَاهُ بِهَا حَتّى مَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ , وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ , وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومِ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَالسّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ ، مَاتَ بِمَكّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَخَلَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ .

وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ , وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ , وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ .

فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا فَكَانَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِجِوَارٍ: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيّ دَخَلَ بِجِوَارِ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، دَخَلَ بِجِوَارٍ مِنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَ خَالَهُ . وَأُمّ أَبِي سَلَمَةَ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ .

ثُمَّ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُم أنَّ خَبَرَ إسْلاَمِ أهْلِ مَكَّةَ لَيْسَ صَحِيحَاً, رَجَعَ كَثِيرٌ مُنْهم إلَى الحَبَشَةِ , وَهَذِهِ هِي الهِجْرَةُ الثَّانِيةُ إليْهَا . وَبَقُوا فِيها مَعَ مَنْ كَانَ فِيهَا أصْلاً مِن المُسْلِمينَ , إلَى أنْ رَجَعُوا عَامَ خَيبَرَ –كَمَا سَيأتِي إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -

 

ــــــــــ

الحاشية :

(1) صحيح . أخرجه البيهقي ( 9 / 9 ) وغيره من طريق ابن إسحاق موصولاً . انظر تخريجه ( السلسلة الصحيحة 3190 ) للشيخ الألباني رحمه الله .

(2) في المسند : سيوم .

(3) الدبر بلغة الحبشة: الجبل .

(4) إسناده صحيح . وأخرجه أحمد ( 1 / 202 – 203 ) من طريق ابن إسحاق به

(5) صحيح البخاري ( 3684 )

(6) إسناده لا بأس به , بيد أنه وقع فيه – فيما يبدو - سَقطٌ عند ابن هشام في السيرة , والظاهر أنه سقط قديم؛ لأنه بعينه موجود في سيرة ابن كثير, وفي الإصابة لابن حجر؛ وذلك أن صواب الإسناد هكذا : عبدالرحمن بن الحارث, عن عبدالعزيز بن عبدالله, عن عبدالله بن عامر بن ربيعة, عن أمه أم عبدالله . هكذا هو عند أبي نعيم في ( معرفة الصحابة ) , ويؤيده أن راوية القصة وهي ليلى بنت أبي حثمة هي أمٌ لعبدالله , وابنها عبدالله هو الذي يروي عنها , أما عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر, فهو حفيدها , ولم يدركها . وإنما يروي عن أبيه عبدالله بن عامر , وقد ترجم له البخاري في التاريخ , وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل , ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً , ووثقه ابن حبان . وروى القصة أيضا الطبرانيُّ في الكبير ( 25 / 29 ) من طريق ابن إسحاق به , ووقع في إسناده تخليط أشد , فهو عنده هكذا: ابن إسحاق عن عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أمه ليلى . فجعل أمَّ عبدالله أمَّاً لعبدالرحمن بن الحارث ( ! ) لكن الحافظ الهيثمي عزاه إلى الطبراني في ( مجمع الزوائد 6 / 24 ) وصحَّحه , فالظاهر أن الإسناد في نسخته وقع على الجادة ؛ لأنه قال في أوله: عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أمه ليلى .. فذكره . والله أعلم .

(7) إسناده صحيح . وأخرج البخاري ( 3864 ) , ( 3865 ) قصةَ تخليصِ العاص بن وائل لعمر رضي الله عنه بسياق آخر مختصر .